الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
وسمي يوم التنادي، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر، وإما لنداء المؤمن: {هاؤم اقرؤا كتابيه} والكافر: {يا ليتني لم أوت كتابية} وقرأت فرقة: التناد، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، والكلبي، والزعفراني، وابن مقسم: التناد، بتشديد الدال: من ندَّ البعير اذا هرب. كما قال {يفر المرء من أخيه} الآية وقال ابن عباس، وغيره: في التناد خفيفة الدال هو التنادي، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم، وينادي بعضهم بعضاً. وروي هذا التأويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. انتهى. قال أمية بن أبي الصلت: وفي الحديث: «إن للناس جولة يوم القيامة يندّون»، يظنون أنهم يجدون مهرباً؛ ثم تلا: {يوم تولون مدبرين}، قال مجاهد: معناه فارين.وقال السدّي: {ما لكم من الله من عاصم} في فراركم حتى تعذبوا في النار. وقال قتادة: ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم، أي مانع، يمنعكم منها، أو ناصر. ولما يئس المؤمن من قبولها قال: {ومن يضلل الله فما له من هاد}. ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات. والظاهر أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون هو فرعون موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل: بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، وأن فرعون هو فرعون، غير فرعون موسى. و{بالبينات}: بالمعجزات. فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين، حتى إذا توفى، {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً}. وليس هذا تصديقاً لرسالته، وكيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى: لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول، ونفي بعثته. وقرئ: ألن يبعث، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضاً على نفي البعثة. {كذلك}: أي مثل إضلال الله إياكم، أي حين لم تقبلوا من يوسف، {يضل الله من هو مسرف مرتاب}: يعنيهم، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.وجوزوا في {الذين يجادلون} أن تكون صفة لمن، وبدلاً منه: أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في {كبر} عائداً على ذلك أولاً، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله: {يجادلون}، أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلاً أعيد أولاً على لفظ من في قوله: {هو مسرف كذاب}. ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله: {كبر} على لفظ من. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون {الذين يجادلون} مبتدأ وبغير {سلطان أتاهم} خبراً، وفاعل {كبر} قوله: {كذلك}، أي {كبر مقتاً} مثل ذلك الجدال، و{يطبع الله} كلام مستأنف، ومن قال {كبر مقتاً عند الله} جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون، ولا يتعقل جعله خبراً للذين، لأنه جار ومجرور، فيصير التقدير: {الذين يجادلون في آيات الله}: كائنونن، أو مستقرون، {بغير سلطان}، أي في غير سلطان، لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة، وكذلك في قوله {يطبع} أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام، لأن ما جاء في القرآن من {كذلك يطبع}، أو نطبع، إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه، فجعل الكاف اسماً فاعلاً بكبر، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش، ولم يثبت في كلام العرب، أعني نثرها: جاءني كزيد، تريد: مثل زيد، فلم تثبت اسميتها، فتكون فاعلة.وأما قوله: ومن قال لي آخره، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، كما قالوا: من كذب كان شراً له، أي كان هو، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم، ولا يفجأهم بالخطاب. وفي قوله: {كبر مقتاً} ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حدّ إشكاله من الكبائر. {كذلك}: أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين، {يطبع الله}: أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى. وقرأ أبو عمرو بن ذكوان، والأعرج، بخلاف عنه: قلب بالتنوين، وصف القلب بالتكبر والجبروت، لكونه مركزهما ومنبعهما، كما يقولون: رأت العين، وكما قال: {فإنه آثم قلبه} والإثم: الجملة، وأجاز الزمخشري أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر، بجعل الصفة لصاحب القلب. انتهى، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف. وقرأ باقي السبعة: قلب متكبر بالإضافة، والمضاف فيه العام عام، فلزم عموم متكبر جبار. وقال مقاتل: المتكبر: المعاند في تعظيم أمر الله، والجبار المسلط على خلق الله.{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً}، أقوال فرعون: {ذروني أقتل موسى ما أريكم إلا ما أرى يا هامان ابن لي صرحاً}، حيدة عن محاجة موسى، ورجوع إلى أشياء لا تصح، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى، هذا على كثرة سفكه الدماء. وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته. قال السدي: الأسباب: الطرق. وقال قتادة: الأبواب؛ وقيل: عنى لعله يجد، مع قربه من السماء، سبباً يتعلق به، وما أداك إلى شيء فهو سبب، وأبهم أولاً الأسباب، ثم أبدل منها ما أوضحها. والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء، إذ في الإبهام تشوق للمراد، وتعجب من المقصود، ثم بالتوضيح بحصل المقصود ويتعين. وقرأ الجمهور: فأطلع رفعاً، عطفاً على أبلغ، فكلاهما مترجي. وقرأ الأعرج، وأبو حيوة، وزيد بن علي، والزعفراني، وابن مقسم، وحفص: فأطلع، بنصب العين. وقال أبو القاسم بن جبارة، وابن عطية: على جواب التمني. وقال الزمخشري: على جواب الترجي، تشبيهاً للترجي بالتمني. انتهى. وقد فرق النحاة بين التمني والترجي، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع، والترجي يكون في الممكن.وبلوغ أسباب السموات غير ممكن، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه. وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم، فتنفعه الذكرى في سورة عبس، إذ هو جواب الترجي في قوله: {لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفاً على التوهم، لأن خبر لعل كثيراً جاء مقروناً بأن في النظم كثيراً، وفي النثر قليلاً. فمن نصب، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً كان منصوباً بأن، والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج، وأما هنا، فأطلع، فقد جعله بعضهم جواباً للأمر، وهو قوله: {ابن لي صرحاً}، كما قال الشاعر: ولما قال: {فأطلع إلى إله موسى}، كان ذلك إقراراً بإله موسى، فاستدرك هذا الإقرار بقوله: {وإني لأظنه كاذباً}: أي في ادعاء الإلهية، كما قال في القصص: {لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} {وكذلك} أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى. {زين لفرعون سوء عمله}. وقرأ الجمهور: {زين لفرعون} مبنياً للمفعول؛ وقرئ: زين مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: {وصد} مبنياً للفاعل: أي وصد فرعون؛ والكوفيون: بضم الصاد مناسباً لزين مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب: بكسر الصاد، أصله صدد، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها؛ وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، بفتح الصاد وضم الدال، منونة عطفاً على {سوء عمله}. والتباب: الخسران، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق، وفي الآخرة بخلود النار، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين، متبعاً كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد. وقرأ معاذ بن جبل: بشد الشين، وتقدم الكلام على ذلك. والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون، وأجمل أولاً في قوله: {سبيل الرشاد}، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه. ثم فسر، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها، وأنها متاع زائل، هي ومن تمتع بها، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها، إما إلى جنة، وإما إلى نار. وكذلك قال: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها}. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، والأعمش، والإخوان، والصاحبان، وحفص: {يدخلون} مبنياً للفاعل، وباقي السبعة، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وعيسى: مبنياً للمفعول.
وقال بعض الطائيين: انتهى. وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش، كما ذكرناه، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك، فكأنه قال: إن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً فيها: وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعاً ويوماً أجمعاً على البدل، مع أنهما لا يليان العوامل، فإن يدعى في كل البدل أولى، وأيضاً فتنكير كل ونصبه حالاً في غاية الشذوذ، والمشهور أن كلاً معرفة إذا قطعت عن الإضافة. حكى: مررت بكل قائماً، وببعض جالساً في الفصيح الكثير في كلامهم، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم: مررت بهم كلاً، أي جميعاً. فإن قلت: كيف يجعله بدلاً، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم، وهو لا يجوز على مذهب البصريين؟ قلت: مذهب الأخفش والكوفيين جوازه، وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، لا نعلم خلافاً في ذلك، كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} وكقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، معناه: مررت بكم كلكم، وتكون لنا عيداً كلنا. فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة، فجوازه فيما دل على الإحاطة، وهو كل أولى، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه، لأنه بدل من ضمير المتكلم، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف.ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعاً: {لخزنة جهنم}، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة، ولم يأت ضميراً، فكان يكون التركيب لخزنتها، لما في ذكر جهنم من التهويل، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم. ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير: {أوَلم تك تأتيكم رسلكم بالبينات}، فأجابوا بأنهم أتتهم، {قالوا}: أي الخزنة، {فادعوا} أنتم على معنى الهزء بهم، أو فادعوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك. والظاهر أن قوله: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} من كلام الخزنة: أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي. وقيل: هو من كلام الله تعالى إخباراً منه لمحمد صلى الله عليه وسلم. وجاءت هذه الأخبار معبراً عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها.ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم، كما فعل بموسى عليه السلام، حيث أهلك عدوّه فرعون وقومه، وفيه تبشير للرسول عليه السلام بنصره على قومه، {في الحياة الدنيا}، العاقبة الحسنة لهم، {ويوم يقوم الأشهاد}: وهو يوم القيامة.قال ابن عباس: ينصرهم بالغلبة، وفي الآخرة بالعذاب. وقال السدّي: بالانتقام من أعدائهم. وقال أبو العالية: بإفلاح حجتهم. وقال السدّي أيضاً: ما قتل قوم قط نبيًّا أو قوماً من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. انتهى. ألا ترى إلى قتلة الحسين، رضي الله عنه، كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحداً واحداً حتى قتلهم؟ وبختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيى بن زكريا، عليهما السلام؟ وقيل: والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمّته، كنوح وموسى ومحمد عليهم السلام، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه، كيحيى، ومن لم ينصر عليهم. وقال السدي: الخبر عام، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد، إما في حياة الرسول المنصور، كنوح وموسى عليهما السلام، وإما بعد موته. ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى عليه السلام من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيى عليه السلام؟ وقرأ الجمهور: يقوم بالياء؛ وابن هرمز، وإسماعيل، والمنقري عن أبي عمرو: بتاء التأنيث. الجماعة والأشهاد، جمع شهيد، كشريف وأشراف، أو جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد} وقال: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} والظاهر أنه من الشهادة. وقيل: من المشاهدة، بمعنى الحضور. {يوم لا ينفع}: بدل من يوم {يقوم}. وقرئ: تنفع بالتاء وبالياء، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل. {ولهم اللعنة} والإبعاد من الله. {ولهم سوء الدار}: سوء عاقبة الدار.
|